فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.سورة سبأ:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [1].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} خلقاً وملكاً، وتصرفاً بما شاء: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} أي: في النشأة الآخرة. قال الشهاب: السماوات والأرض عبارة عن هذا العالم بأسره. وهو يشتمل على النعم الدنيوية. فعلم من التوصيف بقوله: {الَّذِي} الخ، أنه محمود على نعم الدنيا، ولمّا قيّد الثاني بكونه في الآخرة، علم أن الأول محله الدنيا فصار المعنى: أنه المحمود على نعم الدنيا فيها، وعلى نعم الآخرة فيها. أو هو من باب الاحتباك، وأصله: الحمد لله إلخ في الدنيا، وله ما في الآخرة والحمد فيها، فأثبت في كل منها ما حذف من الآخرة. وقوله تعالى: {وّلّهُ الْحّمْدُ} معطوف على الصلة، أو اعتراض، إن كانت جملة: {يَعْلَمُ} حالية: {وَهُوَ الْحَكِيمْ} أي: الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته: {الْخَبِيرُ} أي: بخلقه وأعمالهم وسرائرهم، ثم ذكر مما يحيط به علماً قوله:

.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [2].
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} أي: من الأمطار، والمياه، والكنوز، والدفائن، والأموات: {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي: من الشجر، والنبات، وماء العيون، والغلة، والدواب: {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء} أي: من الأمطار، والثلوج، والبرد، والصواعق، والأرزاق، والملائكة، والمقادير: {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي: من الملائكة، وأعمال العباد: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} أي: لمن تاب من المؤمنين وقام بواجب شكره.

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [3].
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني مشركي مكة: {لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} أي: ساعة الجزاء، إنكاراً لها: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} أي: الساعة. ردٌّ لكلامهم وتأكيدٌ لما نفوه، باليمين بالله عز وجل: {عَالِمِ الْغَيْبِ} بالجر صفة، والرفع خبر محذوف، وقرئ: {علَّامِ} بالجر. وفي هذا التوصيف تقوية للتأكيد؛ لأن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به، يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة إثباته وصحته، لما أنه في حكم الاستشهاد على الأمر، لاسيما إذا خص من الأوصاف ما له اختصاص بهذا المعنى، فإن قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية، وأولها مسارعة إلى القلب، إذا قيل عالم الغيب: {لَا يَعْزُبُ} أي: لا يغيب بضم الزاي وكسرها: {عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: فالجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء، وإن تناهى في الصغر، فالعظام وأجزاء البدن، وإن تلاشت وتفرّقت وتمزّقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرّقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة؛ لسعة علمه وعظم قدرته، جل شأنه.
لطائف:
الأولى- عامة القراء على رفع: {أَصْغَرُ} و{أَكَبَرُ} وفيه وجهان:
أحدهما: الابتداء والخبر: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} والثاني النسق على: {مْثَقالَ}. وعلى هذا فيكون قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} تأكيداً للنفي في: {لاَ يَعْزُبُ} كأنه قال: لكنه في كتاب مبين، ويكون في محل الحال، وقرأ بعض السلف بفتح الراءين، وفيه وجهان: أحدهما- أن: {لَا} هي لا التبرئة، بني اسمها معها. والخبر قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ}. والثاني- النسق على: {ذَرَّةٍ} لامتناعه من الصرف.
الثانية- يشير قوله تعالى: {وَلاَ أصْغَرُ مِنَ ذَلِكَ} إلى أن: {مِثْقَالَ} لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب أيضاً.
الثالثة- قال الكرخي: فإن قيل فأيّ حاجة إلى ذكر الأكبر، فإن من علم الأصغر من الذرة لابد وأن يعلم الأكبر؟ فالجواب: لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت فيه الصغائر لكونها محل النسيان، وأما الأكبر فلا يُنسى فلا حاجة إلى إثباته، فأعلم أن الإثبات في الكتاب ليس كذلك، فإن الأكبر مكتوب فيه أيضاً. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [4].
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} علة لقوله تعالى: {لَتَأْتيَنَّكُمْ} وبيان لما يقتضي إتيانها من جزاء المحسن والمسيء: {أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: عيش هنيء في الآخرة.

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} [5].
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} أي: بالطعن فيها ونسبتها إلى السحر والشعر وغير ذلك {مُعَاجِزِينَ} أي: مقدرين الغلبة والعجز في زعمهم الفاسد وظنهم الباطل: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} وهو أسوأ العذاب و{مِّن} للبيان: {أَلِيمٌ} بالرفع صفة عذاب، وبالجر صفة لرجز، قراءتان. وقد جوز في قوله: {وَالَّذِينَ سَعَوْا} أن يكون مبتدأ، وجملة: {أُوْلَئِكَ} إلخ خبره وأن يعطف على: {الَّذِينَ} قبله. أي: ويجزي الذين سعوا. وتكون جملة: {أُوْلَئِكَ} التي بعدها مستأنفة، والتي قبله معترضة. وفي التعبير عن طعنهم وصدهم بالسعي، تمثيل لحالهم. فإن المكذب آت بإخفاء آيات بينات، فيحتاج إلى السعي العظيم، والجدّ البليغ، ليروّج كذبه لعله يعجز المتمسك به.

.تفسير الآيات (6- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} [6- 8].
{وَيَرَى} أي: يعلم: {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي: دينه وشرعه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: من قريش: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} يعنون النبي صلّى الله عليه وسلم: {يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي: فرقتم كل تفريق، بحيث صرتم تراباً ورفاتاً: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي: فيما قاله: {أَم بِهِ جِنَّةٌ} أي: جنون تخيل به ذلك. فرد تعالى عليهم ما نعى به سوء حالهم بقوله: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} أي: المتناهي أمره، فإن من يدعى إلى الصلاح والرشاد، ونبذ الهوى والفساد، فيرمي الداعي بالفرية والجنون، لَمُغرق في الجهالة، ومبعد أي: بعد في الضلالة، ثم أشار إلى تهويل تلك العظيمة التي تفوهوا بها، وإنها موجبة لنزول أشد العذاب، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (9):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [9].
{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاء} أي: أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وإنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم، محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجل، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفاً لتكذيبهم الآيات، وكفرهم بالرسول صلّى الله عليه وسلم وبما جاء به، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. أفاده الزمخشري.
والكسْف: بسكون السين، بمعنى القطع، إما جمع كسفة، أو فعل بمعنى مفعول، أو مخفف من المصدر، وقرأ حفص: {كِسَفاً} بالفتح: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله: {لَآيَةً} أي: دلالة واضحة: {لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أي: راجع إلى ربه مطيع له، فإن شأنه لا يخلو من الاعتبار في آياته تعالى، على أنه قادر على كل شيء من البعث ونشر الرميم، كما قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} [يس: 81]، وقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].
ثم أخبر تعالى عما آتى داود وسليمان من الفضل، والملك، وسعة السلطان، ووفرة الجند، وكثرة العَدَد، والعُدَد، ببركة إنابتهما، وقيامهما بشكر الرب تعالى، عِدةً للنبي صلّى الله عليه وسلم، وأتباعه المنيبين الشاكرين بنيل مثل ذلك، وتذكيراً بقدرته على كل شيء، فقال تعالى:

.تفسير الآيات (10- 11):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [10- 11].
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} أي: رجّعي معه التسبيح و{يَا جِبَالُ} بدل من: {فَضْلاً} أو من: {آتَيْنَا} بتقدير قولنا، أو قلنا يا جبال أوّبي معه: {وَالطَّيْرَ} بالرفع والنصب، عطفاً على لفظ الجبال ومحلها، وجوز انتصابه مفعولاً معه، وأن يعطف على: {فَضْلاً} بمعنى وسخرنا له الطير. قال الزمخشري: فإن قلت أي: فرق بين هذا النظم، وبين أن يقال: وآتينا داود منا فضلاً، تأويب الجبال معه والطير؟
قلت: كم بينهما! ألا ترى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الإلهية، حيث جعلت الجبال منزلة منزّلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع على إرادته. انتهى.
{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي: دروعاً واسعاتٍ: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي: اقتصد في نسج الدروع لتتناسب حلقها: {وَاعْمَلُوا صَالِحاً} أي: وقلنا له ولأهله ذلك: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: فأجازيكم به.

.تفسير الآية رقم (12):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [12].
{وَلِسُلَيْمَانَ} أي: وسخرنا له: {الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي: جريها بالغداة مسيرة شهر، وجرها بالعشي كذلك، والريح الهواء المسخر بين السماء والأرض. ويطلق بمعنى النصرة والدلالة والغلبة والقوة، كما في القاموس: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي: النحاس المذاب، أي: أجرينا له ينبوعه لكثرة ما توفر لديه منه من سعة ملكه: {وَمِنَ الْجِنِّ} أي: الشياطين الأقوياء: {مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: من رفيع المباني، وإشادة القصور وغيرها: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي: بأمره تعالى: {وَمَن يَزِغْ} أي: يعدل: {مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} أي: النار، ثم فصل ما ذكر من علمهم بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (13):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [13].
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ} أي: مساكن ومجالس شريفة، أو مساجد: {وَتَمَاثِيلَ} أي: صور ونقوش منوعة على الجدر، والسقوف، والأعمدة. جمع تمثال، وهو كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيوان، وغير حيوان، ولم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرماً.
قال السيوطي في الإكليل: قال ابن الفرس: احتجت به فرقة في جواز التصوير، وهو ممنوع فإنه منسوخ في شرعنا: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} أي: وصحاف كالجوابي، وهي الحياض الكبار، والجفان: جمع جفنة وهي كالصحفة والقصعة، ما يوضع فيه الطعام مطلقاً. وقيل الجفنة أعظم القصاع، ثم يليها القصعة وهي ما تشبع عشرة، ثم الصحفة وهي ما تشبع خمسة، ثم الميكلة وهي ما تشبع ثلاثة أو اثنين، ثم الصحيفة: {وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} أي: ثابتات على الأثافي، لا تنزل عنها لعظمها: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} أي: قيل لهم: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه. وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف، كما أن فيه وجوب الشكر، وأنه يكون بالعمل ولا يختص باللسان؛ لأن حقيقته صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله، وداود عليه السلام قد يدخل هنا في آله، فإن آل الرجل قد يعمه: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} أي: المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه، وأكثر أوقاته.

.تفسير الآية رقم (14):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [14].
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ} أي: على سليمان: {الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} وهي الأرضة: {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} أي: عصاه التي ينسأ بها، أي: يطرد ويؤخر: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} أي: الشديد من الجري على رسمه لهم، والدأب عليه، لظنهم إياه حيّاً. ثم بين تعالى من أخبار بعض الكافرين بنعمه، إثر بيان أحوال الشاكرين لها، ما فيه عظة واعتبار، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (15):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [15].
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} اسم لأبي قبيلة. وقد قرئ بمنع الصرف على أنه اسم لها: {فِي مَسْكَنِهِمْ} أي: في مواضع سكناهم، وهي باليمن يقال لها: مأرب، كمنزل من بلاد الأزد، في آخر جبال حضرموت، وكانت في الزمن الأول قاعدة التبابعة، فإنها مدينة بلقيس، بينها وبين صنعاء نحو أربع مراحل. وقرئ: {مَسَاكِنِهِمْ}: {آيَةٌ} على قدرته تعالى ومجازاته المسيء: {جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} أي: جماعتان من البساتين عن يمين بلدهم وشمالها، أو لكل واحد جنتان عن يمين مسكنه وشماله. قيل لهم: {كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} أي: بصرف ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله.
ثم بين ما يوجب الشكر المأمور به، بقوله سبحانه: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أي: لطيفة جميلة مباركة لا عاهة فيها: {وَرَبٌّ غَفُورٌ} أي: لمن شكره.